المعلم بين الرسالة والواقع

منذ أن غُيِّب دور المعلم عن المجتمع غابت القيم والأخلاق وثقافة الحوار، وتفشَّتْ الرذيلة وانتشرتْ في أوساط المجتمعات. فأيُّ أُمّة لا يحظى بها المعلم بمكانة مرموقة تبقى في ذيل الأمم وقاعها.
فالمعلم لا يقتصر دوره على تعليم أبجديات القراءة والكتابة فحسب وأساسيات الحساب وفن الخطابة والتاريخ، لا يقف دوره عند هذه العتبة العرجاء. ما زلنا كأُمّة عربية نفتقر إلى معلِّم يعلَّمنا فن الحوار وثقافة الاختلاف، واحترام الرأي الآخر ومفاهيم الحرية، ولا زال البحث جارياً عن معلم يُراقب السّلوكيات، ويقوّم الاعوجاج ويُشارك في إعداد المنهاج، ويكون شريكاً في صنع القرار، لا أن تُملى عَلَيْه القرارات.
 
وما زال البحث جارياً عن معلمٍ يُدرك مفهوم رسالته ومضامينها، ورسالته لا تنحصر بين دفتي كتاب واختزالها ببعض المواقف دون غيرها أو في ذوات الشخوص. المعلّم الذي تحتاج إليه هذه الأمة هو  المعلم الذي لا يَكاد يهدأ له بال ولا يرتاح له ضمير، ولا يهنأ له نوم طالما أن هذه الأجيال لم تضع أقدامها على مسار السِّكة الصَّحيحة والطَّريق القويم.

هذه أُمة عائمة وبحاجة إلى معلّم يتقن مهارة السباحة لينقذها من الغرق الذي هي فيه ويُغطَّي عورتها. إن الأنظمة المهترئة في عالمنا العربي تنبهت لهذه النُّقطة في وقت مبكرٍ واعتبرتها غاية في الأهمية والخطورة فعملت جاهدة على وأدها بطريقة "عفريتية" يصعب إدراكها وتفسيرها.

 خرّجت لنا أفواجاً من المعلمين الذين يُعلَّمون القراءة والحساب وفن الخطابة على المنابر، وفي المجالس دون التَّطرق لآداب الحوار وثقافة الاختلاف، وكيفية التخلص من الفساد والاستبداد.

إذا كان المعلم لا يَتمتع بالحرية والعدل والمساواة ولا يَحظى بها ولا يستطيع المطالبة بأبسط حقوقه وأدناها، فكيف له أن يُعلِّم الأجيال مفهوم الحرية والمساواة وغيرها من المفاهيم الفكرية والإنسانيّة، فليس من المعقول أن فاقد الشيء يُمكن أن يُعطيه، والمعلّم في أُمّتنا العربية يَتعرض لهجمة شرسة ولسياسة مُمنهجة في التهميش والاضطهاد والإقصاء فمن المستحيل أن تنهض هذه الأجيال بما أن من يُعلِّمها يفتقر لأدنى حريته وأبسط حقوقه.

ويا ليت أنَّ الأمر وصل إلى تغيِّب المعلم عن دوره الجوهري فحسب، بل تعدى الأمر أكثر من ذلك كثيراً، فلقد استطاعت الأنظمة المهترئة خلال العقود الماضية أَن تُفقد المعلم مكانته الاجتماعية في أوساط المجتمع حتى بات المجتمع ينظر إليه لا شيء كالصفر على اليسار الذي لا قيمة له، وعلى سبيل المثال لا الحصر إذا أراد أن يتزوج يتم رفضه وبصعوبة يكاد أن يُزوج.
 
والمجتمع يرفض أيضاً أن ينخرط أبناؤه في هذه المهن، باعتبارها مهنة كادحة، ولو أُتيح للمعلم أن يُعلّم ما يُمليه عليه ضميره وأخلاقه لما بقيتْ هذه الأنظمة المهترئة قائمة إلى يومنا هذا، ولرأيتها خاوية على عروشها هامدة لا مُقدِّس ولا مُصفق لها في أوساط المجتمعات العربية.

كانت البداية بالمعلم، أٌسقطت هيبته ومكانته وقُدسيته، ودُبرت بليلٍ حتى تتمتع الأنظمة المهترئة بمجدها وبطشها وغيِّها لتبقى مُنتهجة لنهج الاستبداد والفساد وتُغيّر معالم الحضارة والمُضي في تهويدها دون من ينتقدها. ومن الاستحالة أن تتحرر الأمة من قيودها طالما أن معلِّمها مُقيد ومُكبل.

فالمعلم كالماء والأَجيال كالأرض فإذا نزل الماء على الأرض اهتزت وربت، وأخرجت ما فيها من خيرات، وإذا حُبس عن الأرض بقيتْ أرضاً جرداء خاوية لا حياة فيها ولا روح، ومنذ أن تنبهت الانظمة لهذا أَحكمت سيطرتها على الماء والهواء، فبقيت الأرض جرداء تائهة، فاذا أردتم التحرُّر، فحرّروا المعلم، وبهذا تتحرر أمتكم من قيودها دون عناء أو إراقة دماء.
محمود عبد العزيز العايد
 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

ما أصل عبارة "كومير" التي يطلقها المغاربة على نوع من الخبز؟

عبد الصمد الإدريسي يكتب: الإشادة بالجريمة الإرهابية في القانون المغربي

لوموند: تناقص المدارس الحكومية بمدن المغرب الكبيرة